التّأديب وتربية السّلوك الحضاري ج2

التعلم المدرسي وتربية السلوك الحضاري -II

 كيفما تتربىّ الناشئة اليوم يكون الشعب غدا - هذا القول لأحد المربّين، يمثّل قاعدة أو معادلة تاريخية وحضارية في شأن تربية الأجيال، تنال إجماع مفكري التربية التي يتلقاها اليوم ناشئتنا، يتعلق بما رسمه ويصبو اليه النظام التربوي من غايات، وما يتوق اليه مجتمعنا من مستقبل تكون فيه حياته أرقى وذات عطاء حضاري متميز. فهل يمكن لمبدإ العقاب وعقلية التسلط والتعنيف أن يحتلاّ دورا ايجابيا في مسار التربية السليمة وتحقيق الغايات المرسومة وترسيخ السلوك الحضاري

أ- مفهوم السلوك الحضاري : يمكننا القول أن السلوك الحضاري هو ذلك الذي يتحلّى بفهم وممارسة مقوّمات التّعايش السّليم والحياة الجماعية المنتجة والخصبة، حيث يصبح الفرد قادرا على التفاعل مع المجموعة تفاعل العضو مع بقية الاعضاء في جسم واحد معافى . ومن بين ما يعنيه ذلك ، الشعور بالمسؤولية والتعامل الديمقراطي  واداء الواجب دون منّ او فخر ، قبل المطالبة بالحقوق والمساهمة في جعل الحياة الجماعية قاسما مشتركا يعمل الجميع على تطويره   وتحسينه وحمايته  :" والجميع مدعوون كل من موقعه لمواصلة مقاومة مظاهر الخروج عن آداب السلوك لدى أبنائنا داخل المؤسسة التربوية وخارجها ...كما أنّ ترسيخ السلوك الحضاري لا يتأتى إلّا إذا ربّينا التلاميذ على احترام المربين وكافة العاملين بالمدرسة ودعوناهم لنبذ العنف اللفظي والمادي وبذيء العبارة ... ويبقى المربي أكثر الأطراف اتّصالا بالمتعلّم واشدّهم تاثيرا فيه ،وغير خاف أنه قدوة التلميذ ومثله الاعلى في المظهر والهندام والسلوك والقول ." -مقتطفات من المنشور 109/93 حول السلوك الحضاري

     لنتساءل الآن هل أن العقاب المدرسي وخصوصا الأنواع المحجّرة ( العقوبة البدنية ، الكلمة الجارحة ، التهديد اللفظي ، الحطّ من الاعداد والاقصاء عن الدرس ...) حسب ما ورد بالمنشور 109/93 ، يمكن أن يواكب مرامي الاصلاح وقيم السلوك الحضاري.

       ب) حظوظ التربية العقابية في تكوين وترسيخ السلوك الحضاري: الكثير من البحوث والدراسات يميز بين عقاب الشخص وعقاب السلوك ، لان النوع الاول يحتوي الاهانة المباشرة للشخص القائم بالسلوك كما يعني الحقد والانتقام في حين أن النوع الثاني يمثل صدّا وقمعا للسلوك اللامرغوب بهدف منع تكراره وحدوثه لاحقا. وقد يختلط الامر على البعض فيرى ان النوعين لا يختلفان لانّ عقاب السلوك هو أيضا يرتبط بالقائم به، اذ كيف يعاقب سلوك ما دون

أن يكون في ذلك عقاب للشخص القائم به.وفي الحقيقة يمكننا أن نميّز عقاب السلوك بما يلي

 

      الارتباط في الزمن بين العقوبة والخطإ أو السلوك اللامقبول*

     ( توضيح أسباب عدم قبول السلوك وفهم ذلك من طرف المعاقب (التلميذ)*

   ادراك الطرف المتحمل للعقاب أن الموقف عادل *

     غياب مظاهر التهيج والانفعال من طرف المربي ووضوح نوع العقوبة وقدرها*

 والالتزام بها

  

 واذا تحدثنا عن مشروعية العقاب،نرى واقع الحياة يدفعنا للإقرار بأن العقوبة الرادعة لبعض أنماط السلوك موقف ضروري خاصة اذا كان السلوك يمثل ضررا مباشرا، لا يمكن تجنّبه بأي شكل آخر. وفي مثل هذه الوضعيات، يصلح العقاب كأسلوب علاجي على أن يكون سريعا بغرض ايقاف السلوك فقط:(كأن يحاول الطفل أن يضع مسمارا في أذنه أو أذن طفل آخر، أو العبث مع طفل أصغر بوسائل حادة قريبة من عينه أو القفز بطريقة خطرة على المدرج...) والامثلة كثيرة حسب الاعمار . الا ان هذه الظروف العقابية الخاصة لا تبرر "منهج العقاب" في المؤسسة التربوية ،ولا تلغي خطورة الآثار النفسية والتربوية الناجمة عنه ولا تغطي سلبياته ومضاره  عندما يتعلق الأمر بتكوين الشخصية المتّزنة والديمقراطية ،المنتجة والقادرة على التعايش بأمن وسلام في اطار المجتمع الذي تنتمي اليه، أي شخصية ذات سلوك حضاري.وسنحاول في الفقرة التالية بيان الاثار السلبية للتربية العقابية حسب اصناف العقوبات 

 

 التّقريع واللوم والنّعوت اللفظية: كثير من علماء النفس اعترضوا على استعمال العقاب بسبب الأضرار المنجرّة عنه والّتي يفوق خطرها السّلوك المعاقب . حيث يرى هؤلاء مثلا، أن تكرار اللوم والتانيب واصدار النّعوت اللفظية الجارحة يعني بالنسبة للطفل أنّه سيّء وغير مقبول ولا يتوقّع منه غير ذلك، الى درجة انه ينتهي الى تصديق ذلك عن نفسه واعتقاده حقيقة، فيصبح يتصرّف بشكل غير مقبول لان ذلك هو المتوقع منه. والناس عموما يتصرّفون بمقتضى المنظور الذي لديهم عن أنفسهم. فلنتصور حالة التلميذ الذي يسمع لعشرات المرات في الاسبوع أنه "حمار" أو " بليد الذهن" الخ..

 

 العقوبة البدنية : ولا تعني الضرب فقط بل كل ما له علاقة بالجسم من تقييد وحجز وايقاف مع الحائط أو تكليف بأعمال مرهقة ...) ويعبّر هذا الصنف من العقاب ،عن العدوان في أجلى مظاهره وبصفة محسوسة مقارنة بالصنف الاول .وان أضفنا الى ذلك الاستعمال غير المقنن تكون الصّورة آنذاك أكثر قتامة . وانه من المعروف لدى عامّة الناس قبل ظهور نتائج البحوث والدراسات في هذا المجال أن العدوان يعتبر من أكبر عوامل توليد النزعة العدوانية وانتشارها. كما ان الاطفال الذين ينشؤون في بيئة معاقبة يستنتجون فيما بعد أن العقوبة هي الوسيلة المثلى أو الوحيدة للتعامل مع الاخرين ، وان السلوك العدائي يمثل رمزا للقوة والاقتدار وصيانة الحقوق والمصالح. فان عاقبنا الطفل بضربة ، حتى وان كان السبب اعتداءه هو بالضرب على طفل آخر ، نكون بذلك قد منحنا له نموذجا يشجعه على العدوان ولا يردعه عنه –بندورة- Bandoura – 1979. ويؤدّي الاستخدام المتواتر للعقوبة الى تكوين أشخاص لهم درجة عالية من القلق والشعور بالذنب وعدم الاطمئنان. وقد استعرض بعض العلماء الادبيات المتعلّقة بالعدوانيّة في طرق التنشئة ، فوجدوا ان لاستعمال العقوبة بصفة مستمرة من طرف الوالدين في العائلة علاقة بالسلوك العدواني لدى الاطفال . ثم اذا اضفنا لذلك النماذج التي تقدمها بعض اصناف البرامج التلفزيونية، وما يمكن أن يواجهه الطفل من مماسات عدوانية في المؤسسة التربوية، يجب ان لا نستغرب انتشار مظاهر السلوك العدواني واشكاله المختلفة في الحياة الاجتماعية.

       ولا بدّ من الاشارة هنا ، الى ان معطيات التكوين النفسي والتربوي في مرحلة الطفولة ، تعتبر اضافة لما ذكر ،بمثابة برنامج قابل للتحقيق في مرحلة المراهقة والشباب حيث تكون الظاهرة المطروحة في هذه الدراسة حسّاسة واكثر خطورة . وعلى العكس مما يتصور الكثير من الناس ، فان فترة المراهقة لا تتميز بالعنف والتحدي ومختلف الاضطرابات الحادّة ، باعتبارها خصائص طبيعية للنّمو فيها ، بل ان درجة الحدّة فيها مرتبطة بطريقة التنشئة الاسرية والمدرسية، فكلّما واجه الطفل ضغوطا عقابية وزجرية في مراحل طفولته بالعائلة والمدرسة ،لم يكن قادرا آنذاك على فهمها واستيعابها ولم يقدر على تحدّيها ومواجهتها ،كلّما كانت نزعاته الانفعاليّة ومواقفه العدوانيّة اكثر حدّة في فترة المراهقة. .

ان المواصفات الناتجة عن التربية العقابية والتي تعتبر في علم النفس الاكلينيكي، من مؤشرات الشخصية العصابية ومن عوامل جنوح الاطفال والمراهقين ،لا يمكن بأية حال أن تنسجم مع مشروع تكوين وترسيخ السلوك الحضاري وبناء المجتمع المدني السليم. لكن هل من الممكن أن تكون المؤسسة التربوية خالية تماما من العقاب أو أن يكون أقصى عقاب فيها، تقطيب المعلم لحاجبيه. ام هناك أساليب عقابية وطرق لتقويم السلوك ، لا يكون لها آثار جانبية على شخصية الفرد المنشودة ..

      أخيرا نقتصر هنا على القول أنّ للعلاقة التّربويّة الإيجابيّة وأنماط التّواصل الجيّد بين طرفي العمليّة التّربويّة أسرارها..وهي من بين العوامل ذات التّأثيرات الحاسمة في مسار التّعلّم المنظّم..

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع-

 كتاب " تكنولوجيا السلوك"  سلسلة – عالم المعرفة عدد32-سكينر*

   Beyond freedom and dignity ترجمة للمؤلف الاصلي لسكينر باللغة الانجليزية.   

 _ التعلم ، اسسه ونظرياته. د. ابراهيم .وجيه محمود*

 علم النفس التربوي – تريفرز-*

 "    "   "   "  "     "    *