التّأديب وتربية السّلوك الحضاري1

تحتلّ ظاهرة السلوك اللامتوافق وغير السّوي ، في المؤسسة التربوية ، وخارجها ، حيّزا هاما من الاهتمام لدى مختلف الاطراف ، وخاصة لدى الباحثين والدارسين في المجال النفسي والتربوي ،فلا شكّ أنّ عملية التّعلم تستوجب حدّا مناسبا من الاهتمام والانتباه والتفاعل من طرف المتعلمين لتبلغ أهدافها المرجوّة في أفضل الظروف وبأحسن المواصفات.ولكن هيهات،هناك دائما بعض العوامل المعكّرة لجوّ التعلّم، ومصدرها عموما يتمثل في أنماط سلوك غير مقبولة ، يقوم بها بعض التلاميذ ولا يتحملها المربي وكثيرا ما يواجهها بالانفعال واستعمال السلطة . الا ان المشكل في الواقع يتجاوز المؤسسة التربوية وما قد يحصل فيها من تشويش لعمليات التعلم ، ويظهر في الشارع والعائلة وفي كل موقع من مواقع الحياة الاجتماعية. ومهما كان الامر فان الجميع يتفق على ان المشكل تربويّ بالاساس ، ويجب أن يكون للمؤسسة التربوية دور رئيسي في معالجته والنظر في الطرق  الانسب لذلك بالتظافر مع العائلة وكل جهاز اجتماعي  ثقافي ذو بعد تربوي . وفي هذا السياق نطرح اشكالية التاديب وتربية السلوك في المؤسسة التربوية ، من خلال فحص دور العقوبة وموقعها في تمشي تكوين الشخصية التي يطمح لها الاصلاح التربوي وفي اطار ترسيخ السلوك الحضاري ، الذي اصبح من بين اهتماماتنا الاجتماعية والتّربويّة الرئيسية.

 

:( العقوبة والاثابة (أو المكافأة- 

أ)العقوبة : يعود استعمال العقوبة والمواقف الزجرية ألى أقدم العهود في التاريخ البشري وهو عموما ما يميز صاحب السلطة عن الذي ليست له سلطة أو له سلطة أقل ، بحيث يكون الاول ، في وضعيّة ما هو المعاقب أو من يسلط العقوبة على الثاني ، وهي تعني عموما رفض وردع سلوك غير مرغوب فيه ، ويقصد بها تقليص أو إنهاء احتمال ظهور ذلك السلوك مستقبلا .وهي في كثير من الاحيان ليست  الا مجرّد تعبير انفعالي دافعها الحقد والرغبة في الانتقام

وفي اطار المقصد المذكور للسلوك العقابي(كرفض وردع للسلوك المقابل) فان التراث الفكري والتربوي اليوناني والعربي الاسلامي ، وكذلك بقية التراث البشري لا يخلو من موضوع العقوبة كمبدإ أو تقنية للتربية والسيطرة على السلوك الفردي والجماعي . أما بالنسبة للعصر الحديث فإن المدرسة السلوكية في علم النفس والتربية حتى حدود الأربعينات من القرن20(التقليدية: بافلوف،وطسن...)ثم الحديثة أو الاجرائية التي قاد فكرها ونظرياتها عالم النفس الامركي – سكينر- منذ منتصف القرن، تدعم بشكل أو بآخر منطق العقوبة في مجال توجيه وتعديل السلوك وبنائه أو تشكيله

 

السلوكية التقليدية : باعتمادها على العنصر التنبيهي ، تفيدنا مثلا أن المثير المؤلم الذي يصحب استجابة غير مرغوبة يمكن ان يتعلم منه الطفل النفور من تلك الاستجابة وعدم الاقبال على تكرارها ( المثير المؤلم عندما يكون مصدره شخص آخر نسمّيه عقابا ) وفي مثل هذا الموقف يناقض المثير المؤلم مفعول التعزيز الذي من شأنه استدامة الاستجابة ( الاشراط البافلوفي) . ويرى العالم " جثري " مثلا ، في مسألة العقاب أن الفائدة منه ممكنة عندما يكون أثناء العمل المعين ومسببا للتعديل أو التغيير المطلوب فيه وليس بعد أن ينتهي العمل تماما  أي عندما يكون سببا مباشرا في احداث السلوك المطلوب أثناء قيام المتعلم بعمل ما .

أما " سكينر ":رائد نظرية التعلم الاجرائي الذي يركز فيه على أهمية نتائج الاستجابة ، التي قد تكون معززة أوغير معززة .فعندما تكون معزّزة تقوّي احتمالات ظهور السلوك مستقبلا،وأمّا إن كانت النّتائج غير معزّزة للسّلوك الحاصل ولا ترضي الكائن القائم بالسلوك(الطّفل)أو تكون مزعجة له ومؤلمة (حالة العقاب)،يترتّب عن ذلك تقلّص احتمال ظهور ذلك السّلوك مستقبلا.وفي الحقيقة فإن "سكينر" والاخرين ينطلقون من أن البشر عموما وبصفة فطرية يعملون دائما على تجنب المواقف التي تحدث لهم ألما أو إزعاجا ويتعلمون ذلك بأشكال مختلفة.

 

ويقول "سكينر" في مفهوم العقاب وآثاره : « العقاب مصمّم لإزالة السّلوك الاخرق والخطر أو غير المرغوب فيه على افتراض أن الشخص الذي يعاقب قلّما يعود إلى السلوك بالاسلوب نفسه . ولسوء الحظ فإن المسألة ليست بهذه البساطة ... إذ هناك احتمالات أخرى بعضها ذات طابع تدميري ، أو عصابي ، وهي مؤدية عموما للتكيف السيّئ... فقد يسلك الشخص مثلا طرقا لا يعاقب عليها لانّها متعذّرة الرؤية ، كما يفعل حين يعيش في الاوهام ، وقد يظهر السّلوك المستحقّ للعقاب بتوجيهه نحو أشياء لا يمكنها أن تردّ على الأذى بالأذى ، مثلا نحو الأشياء المادية أو الأطفال الأصغر أو الحيوانات الصغيرة. كما انه من الممكن تجنّب العقاب من طرف الشخص الذي خبره وذلك بتجنّب المناسباتالتي يحتمل أن يحصل فيها السلوك المستحقّ للعقاب على العقاب. وفي الواقع يتحدث "سكينر" عن العقاب انطلاقا من تصنيفه الى صنفين اثنين، الاوّل هو العقاب الطبيعي وهو شائع جدا ونتعلّم منه الشيء الكثير،كأن يقع الطفل الذي يركض بشكل عشوائي دون انتباه فيتأذى ، أو حصول جرح بسبب العبث بوسائل حادة ، أو الوخز في القدمين من جرّاء المشي حافيا في طريق شائكة ...، فيتعلم ألا يعيد هذا السلوك. أما النوع الثاني فهو العقاب الاجتماعي الذي يفرضه الناس على بعضهم بعض في أطر وتنظيمات اجتماعية وتبعا لافكار ومعتقدات وقوانين مختلفة. وهو الذي يرى سكينر أن احتمالاته متداخلة ومعقدة ونتائجه ليست مضمونة دائما . وقد لاحظ عديد من الباحثين والدارسين في المجال النفسي والتربوي والشيء نفسه يلاحظه المربون في مدارسنا اليوم ، أن بعض التلاميذ 

المعاقبين عن سلوك معين يستمرّون في اظهاره رغم تأكّدهم من احتمال حصول العقاب.والأدهى أن هناك من المعلّمين من يتمادى في تسليط العقوبات نفسها ازاء نفس السلوك المعاقب سابقا.كذلك نجد من المعلمين من يعبّر عن حيرته فيما يتعلّق بفئة خاصّة من التلاميذ لا يرتدعون برغم تواتر العقوبات.وقد ذهب البعض في تحليل مثل هذه الوضعيات إلى القول بأن مصدر المشكل هو من ناحية ، عدم معرفة المعلّم بالدّوافع الحقيقية وراء قيام التلميذ بسلوك لا مرغوب، اذ من الممكن حسب بعض المحلّلين النفسيين أن يكون الحصول على العقاب موقف مرغوب لا شعوريا من طرف الطفل مما يجعله نوعا من الاشباع (حالات حادّة من مشاعر الذنب ذات مصدر عائلي عموما)،ولذلك تتركّز آليّة السلوك المستدعي للعقاب ، في حين أن المنتظر هو السلوك التّجنّبي له. ومن ناحية أخرى يمكن أن يؤدّي السلوك المستحق للعقاب إلى تحقيق نوع من الاشباع لبعض الحاجات النفسية والاجتماعية الخاصة والملحّة في شخصية الطفل مما يجعله يتحمّل العقاب ويتعوّد عليه خصوصا ان كان من نفس الصّنف. وقد اهتم البعض بدراسة تأثير درجات العقاب في تحوير السلوك وقمعه ،حيث وجد" صولمون" سنة 1964 أن العقوبة البسيطة ينتج عنها في الحالات العادية قمع السلوك المرتبط بها لفترة محدودة ، وبقدر ازدياد درجة قوّة العقوبة يزداد تأثيرها القمعي على السلوك . أما إذا كانت هذه الدّرجة عالية جدّا فإنها يمكن أن تقمع نهائيا ذلك السلوك، ولكن هذه الحالة قد تمثّل خطرا على حياة الشخص المعاقب

        ب) الإثابة أو المكافأة :تتميّز عن العقوبة بكونها تتوجّه الى السلوك المرغوب لتعزيزه وتطويره ، في حين تتوجه العقوبة كما رأينا لقمع السلوك غير المقبول.ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ عملية الحرمان من مكافأة متوقعة،يمكن أن تمثّل عقوبة في الواقع ،كما أنّ سحب العقوبة المتوقعة ازاء سلوك معين،له آثار ايجابية. وقد استعملت المكافاة منذ القدم ايضا في سبيل توجيه السلوك والسيطرة على عملية التعلّم ، في شكل هدايا وجوائز كالقصص واللعب وقطع الحلوى ..الخ ،بالنسبة للاطفال او تقديم مساعدات مالية واسناد الترقيات وتحقيق بعض المصالح..الخ، بالنسبة لمن هم أكبر .والملاحظ طبعا ان المكافأة عموما تقدّم للفائز والمتفوّق أي القلّة او النّخبة المحدودة جدّا ، من تلاميذ القسم مثلا .لذلك فهي كموقف حافز لن يؤثر الا في القليل من الأفراد.

ومن ناحية اخرى، فإن ارتباط بذل الجهد المطلوب في التعلم بنيل المكافأة ، يقود المتعلّم الى التركيز عليها والعمل من اجلها،ولذلك تاثير سلبيّ على تكوين شخصيّتة معرفيا واجتماعيا. كما ان غياب المكافأة قد يصبح سببا لتوقّف الجهد وتلاشي الاهتمام. لذلك فالمطلوب التّعامل مع المكافأة بحذر وبصفة وقتيّة، وما يجب أن يستهدف في الحقيقة أن يكون التّعلم ممتعا بحد ّ ذاته، يكافؤ فيه المتعلّم بتحقيق   توازنه والشعور بالرضا عن نفسه وتقدير الذّات